سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: إنما وحّد الضمير في {يُرضوه} إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر، فكأنهما شيء واحد، أو لأن الكلام إنما هو في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول، أو لأن التقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك؛ فهما جملتان. والضمير في {أنه من يُحادِدِ}: ضمير الشأن: و{فأن}: إما تأكيد لأن الأُولى، وجملة (فله): جواب، أو تكون بدلاً منها، أو في موضع خبر عن مبتدأ محذوف، أي: فحقٌ، أو واجب له نار جهنم.
يقول الحق جل جلاله: {يحلفون بالله} أي: المنافقون، {لكم} أيها المؤمنون، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره، {ليُرْضوكم} أي: لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم، {واللَّهُ ورسولهُ أحقُ أن يرضُوه} بالطاعة والوفاق، واتباع ما جاء به، {إن كانوا مؤمنين} صادقين في إيمانهم. {ألم يعلموا أنه} أي: الأمر والشأن، {من يُحادِدِ اللَّهَ ورسولهُ} يعاديهما، ويخالف أمرهما {فأنّ له}؛ فواجبٌ أن له {نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ} أي: الهول {العظيم}، والهلاك الدائم، والعياذ بالله.
الإشارة: من أرضى الناسَ بسخط الله أسخطهم عليه وسخط عليه، ومن اسخط الناس في رضي الله أرضاهم عليه، ورضي عنه، فمن أقر منكراً؛ حياء أو خوفاً من الناس، فقد أسخط مولاه، ومن انكر منكراً، ولم يراقب أحداً فقد أرضى مولاه، ومن راقب الناس لم يراقب الله، ومن راقب الله لم يراقب الناس، {والله ورسوله أحق أن يُرضُوه إن كانوا مؤمنين}. وتأمل قول الشاعر:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً *** وفَازَ باللذاتِ الجسُور
وبالله التوفيق.


قلت: الضمائر في {عليهم}، و{تنبئهم}، و{قلوبكم}، تعود على المنافقين؛ خلافاً للزمخشري في الأولين، فقال: يعود على المؤمنين، وتبعه البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: {يحذَرَ المنافقون أن تُنَزّلَ عليهم} أي: في شأنهم، {سورةٌ} من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، {تُنبئهم} أي: تخبرهم، أي: المنافقين، {بما في قلوبهم} من الشك والنفاق، وتهتك أستارهم، وكانوا يستهزئون بأمر الوحي والدين، فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قل} لهم: {استهزئوا}؛ تهديداً لهم، {إن الله مُخرِجٌ ما تحذَرُون} من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم.
{ولئن سألتهم} عن استهزائهم، {ليقولن إِنما كنا نخوضُ ونلعبُ} فيما بيننا. رُوي أن ركباً من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات! فأخبر الله نبيه، فدعاهم فقال: «قلتم: كذا وكذا؟» فقالوا: لا، والله، ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر.
قال تعالى: {قل أباللّهِ وآياتِه ورسوله كنتم تستهزئون}، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به، {لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة؛ {قد كفرتم بعد إيمانكم} أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه، بعد إظهار إيمانكم الكاذب. {إن نعفُ عن طائفةٍ منكم}؛ بتوبتهم وإخلاصهم، حيث سبق لهم ذلك؛ كانَ منهم رجل اسمه مَخشِيّ، تاب ومات شهيداً. أو لكفهم عن الإيذاء، {نُعَذِّب طائفة بأنهم كانوا} في علم الله {مجرمين}؛ مُصرين على النفاق، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من الله، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسراهم، وقد يُطلع الله أولياءه على ذلك، وقد لا يطلعهم، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهُم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية. والله تعالى أعلم.


قلت: قال في الأساس: ومن المجاز: نَسيتُ الشيء: تركتُه، {نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ}. قال في المشارق: ونسي بمعنى ترك، معناه مشهور في اللغة، ومنه: {نسوا الله فنسيهم} أي: تركوا أمره فتركهم. وقوله: {كالذين من قبلكم}: خبر، أي: أنتم كالذين، أو مفعول بمحذوف، أي: فعلتم مثل فعل من قبلكم.
يقول الحق جل جلاله: {المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم من بعض} أي: متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين. وقيل: إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله: {إنهم لمنكم} وتقرير لقوله: وهو قوله: {يأمرون بالمنكر}؛ كالكفر والمعاصي، {وينْهَون عن المعروف}؛ كالإيمان والطاعة، {ويقبضُون أيديَهم} عن الإعطاءِ المبار، وهو كناية عن البخل والشح. {نَسُوا الله} أي: غفلوا، أي: أغفلوا ذكره، وتركوا طاعته، {فنسيهم}؛ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله، {إن المنافقين هم الفاسقون}؛ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
{وَعدَ اللَّهُ المنافقين والمنافقاتِ والكفارَ} أي: المهاجرين بالكفر، {نارَ جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود. قال ابن جزي: الأصل في الشر أن يقال: أوعد، وإنما يقال فيه: «وعد» إذا صرح بالشر. اهـ. {هي حَسْبُهُم} أي: جزاؤهم عقاباً وعذاباً، وفيه دليل على عظم عذابها، {ولعنهم الله}؛ أبعدهم من رحمته، وأهانهم، {ولهم عذابٌ مقيم} لا ينقطع، وهو العذاب الذي وعدوه، أو ما يقاسونه من تعب النفاق، والخوف من المؤمنين.
{كالذين من قبلكُم} أي: أنتم كالذين من قبلكم، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، {كانوا أشدَّ منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً}، وهو بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم، {فاستمتعوا بخلافكم} أي: نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً، فرحلوا عنه وتركوه، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، {فاستمتعتُم} أنتم {بخلاقِكم} أي: بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل، {كما استمتع الذين من قبلكُم بخلاقِهِم}، ثم تركوا ورحلوا عنه، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه.
قال البيضاوي: ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة؛ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم. اهـ.
{وخُضْتُم} في الباطل {كالذي خاضُوا} أي: كخوضهم، أو كالخوض الذي خاضوه، وقيل: كالذين خاضوا فيه، فأوقع الذم على الجميع. {أولئك حبِطَتْ أَعمالُهم في الدنيا والآخرة} أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، {وأولئك هم الخاسرون}؛ الكاملون في الخسران، خسروا الدنيا والآخرة.
الإشارة: ينبغي لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار، ويذكرون الله على سبيل الاستهتار، حتى يذكرهم برحمته. ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة، وحلاوة المشاهدات، وبلطائف العلوم والمكاشفات، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من الله في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الفائزون.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14